الأخبار

"سقطرى.. جزيرة الجن والأساطير"

مسقط في 26 فبراير /العُمانية/ في زمن تتسارع فيه عقارب الساعة وتتلاشى أصداء القديم تحت ضجيج الحداثة، تأتي الترجمة العربية لكتاب "سقطرى.. جزيرة الجن والأساطير" للكاتب الصحفي والمصور الإسباني جوردي إستيفا كبوابة سحرية تعيدنا إلى عالم يتنفس الأساطير. صدر الكتاب ضمن مشروع "كلمة" الثقافي الرائد الذي يتبناه مركز اللغة العربية في أبوظبي، بترجمة لطلعت شاهين، ليصبح ليس مجرد وثيقة رحلات، بل شاهدًا على لحظة تاريخية تتشابك فيها خيوط الواقع مع نسيج الخيال.

سقطرى، تلك الجزيرة المنعزلة في أحضان المحيط الهندي، على بعد 400 كيلومتر من سواحل شبه الجزيرة العربية، ليست مجرد بقعة على الخريطة. إنها أرض تتردد فيها أصداء السندباد البحري وألف ليلة وليلة، حيث ترفرف أجنحة طائر الرخ الأسطوري فوق أشجار البخور العابقة، وتتسلل ظلال الجن بين كهوفها الوعرة. جوردي إستيفا، الذي سبق أن أمتعنا بكتابه "عرب البحر"، يعود هنا برحلة جديدة، ولكنها ليست رحلة عادية. بين عامي 2005 و 2011، قادته قدماه خمس مرات إلى هذه الجزيرة المسحورة، حاملًا معه عدسة كاميرته وقلمه، ليوثّق عالمًا يقاوم الزمن بعناد أسطوري، مكملاً تجربته بفيلم تسجيلي يحمل الاسم ذاته، ومئات الصور الفوتوغرافية التي تحبس الأنفاس.

في صفحات هذا الكتاب، لا يكتفي إستيفا بأن يكون رحالة عصريًا يسجل يومياته؛ بل يتحول إلى راوٍ يتنقل بين أزمنة متباعدة، كأنه ساحر يستحضر أرواح الماضي. يجلس مع شيوخ الجزيرة تحت ظلال أشجار الدراكو الغريبة، يستمع إلى حكايات السحرة والعفاريت التي تناقلتها الألسنة عبر أجيال، ويرسم لوحة حية لسكان معاصرين يعيشون في كهوف منحوتة بالصخر، يصادقون الجن ويتراقصون مع أساطيرهم كجزء من نسيج حياتهم اليومي. لكنه يرصد أيضًا تناقضًا رقيقًا: فبينما يحتفظ السقطريون بتقاليدهم القديمة، تصلهم أصداء العالم الخارجي عبر أبنائهم العاملين في الخليج أو ما وراء البحار، حاملين معهم أجهزة التلفاز، والهواتف الذكية، بل وآلات القهوة التي تبدو كأدوات من عالم آخر وسط هذا الفضاء الأسطوري.

ما يجعل الكتاب حدثًا ثقافيًّا متميزًا هو قدرة إستيفا على الغوص في أعماق الذاكرة الإنسانية. يستحضر أسطورة طائر الرخ التي قرأها في "ألف ليلة وليلة"، ويربطها بقصص زيوس تريفيليو اليونانية، بل يذهب أبعد من ذلك ليجد صدى لملحمة جلجامش السومرية في أعماق بحر العرب المحيط بالجزيرة. يروي كيف غاص جلجامش بحثًا عن عشبة الخلود، لتسرقها منه حية ماكرة تترك جلدها وراءها، في رمزية أدبية تعكس صراع الإنسان الأبدي مع الزمن. هذه الروابط ليست مجرد زخرفة أدبية، بل دعوة للتأمل في كيفية تشكل الهوية الثقافية عبر التاريخ.

الكتاب نفسه رحلة بصرية وروحية. صوره تلتقط تفاصيل المناظر الطبيعية الخارقة للجزيرة: أشجار الدراكو التي تشبه مخلوقات من عالم آخر، و "وردة الصحراء" التي تقف كشاهد صامت على قسوة البيئة وجمالها، وغابات الصبر والأدينيوم التي تضفي على المكان طابعًا سرياليًّا. يتنقل إستيفا بين روائح البخور والمر التي تملأ الهواء، وأصوات أغاني "الواوا" التقليدية التي يصدح بها السكان، ومخلفات الجمال التي تتناثر على الأرض كجزء من الحياة اليومية. في هذا الفضاء، يلتقي بحفيد السلطان الأخير، الذي يقوده كدليل أسطوري عبر جبال حجهر الشاهقة، حيث تتراقص ظلال النسور كما لو كانت طيور العنقاء تحيي ملاحم الزمن الغابر.

"سقطرى.. جزيرة الجن والأساطير" ليس مجرد كتاب رحلات، بل هو عمل فني يعيد تشكيل نظرتنا إلى العالم. إنه يضع الجزيرة مجددًا على خارطة الخيال الثقافي، موثقًا عالمًا يصارع من أجل الحفاظ على هويته وسط رياح التغيير. مع هذه الترجمة العربية، يصبح الكتاب جسرًا يربط بين الشرق والغرب، بين الماضي والحاضر، مقدمًا للقارئ العربي فرصة لاستعادة جزء من تراثه الأسطوري من خلال عينين إسبانيتين مفتونتين بجمال المجهول. إنه دعوة للتأمل في معنى العيش في عالم يتأرجح بين الأسطورة والواقع، وفي كيفية تشبث الإنسان بجذوره حتى وهو يمد يده نحو المستقبل.

/العُمانية/

طلال المعمري

أخبار ذات صلة ..