مسقط في 3 فبراير /العُمانية/ "العمل السردي فعل كتابي أناني جدًا، وعندما يبدأ الشاعر بالكتابة الروائية فإنها تمنعه من كتابة أي إبداع آخر وخاصة الشعر. فالشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية، فهو يسمح بأن تشاركه في قلب الشاعر وفكره".. من خلال تلك العبارة يضع الشاعر والكاتب العُماني محمد قراطاس المهري القارئ والمتابع حيث حقيقة الشعر وبيان الرواية.
وفي سياق التجربة الإبداعية، والحديث عن الشعر ونتاجه الإبداعي، "ما ورثه الضوء"، "تغريبة بحر العرب"، و"الأعشاب تفقد الذاكرة سريعًا"، مرورًا بالسرد ورواية "الأعتاب"، يتحدث " قراطاس"، عن وقع المواءمة بينهما ويوضح أن التجربة الإبداعية لكل متعامل مع الأدب لابد أن تتشابه في كثير من جوانبها ابتداءً من اللحظة الأولى التي يشعر فيها المؤلف أن لديه جذوة خلّاقة في روحه وانتهاء بالكتابة الأخيرة التي رفع فيها قلمه عن الورقة، ما نختلف فيه هو الأسلوب والأحداث والزمن الذي حمل هذه الرحلة. وأنا مثل كثير من الكُتّاب بدأت تلك الجذوة بالظهور في المراحل الأولى من الحياة، واختلفت عن كثير من مجايلي في "ظفار"، إن جذوتي وجدت في الشعر الفصيح طريقها. وكان هذا خيارًا صعبا ألزمتني فيه القريحة الشعرية في مجتمع يميل بأغلبه للشعر الشعبي. ومع قلة المرتادين لهذا الطريق فقد كان في كثير من الأحيان يشكل عالمًا من الوحدة يخلو من كل شيء ما عدا الكتاب. وبرغم هذا دفعتني الرغبة الجامحة لدي إلى الاستمرار والكتابة بهذا الغالب ومع السنوات بدأت أتعود على هذه الحالة الشعورية وأجد فيها متنفسًا جميلًا وخلوةً رائعة.
ويشير الكاتب "قراطاس" إلى ما قدمته سياقاته الشعرية الثلاثة، حيث التقاطعات بين تلك الإصدارات، وتفاصيل العمل السردي "الأعتاب" ويؤكد على أن جميع هذه الإصدارات الشعرية تتقاطع في نفس الفكرة، وهي أن مصدرها ذات العقل وذات القلب لشاعر واحد. وهي متأثرة بتصاعد فكري ونفسي مع مراحل الشاعر الحياتية. وعلى الرغم من أن الشعر هو كائن به الكثير من الفضاءات إلا أن ظهوره يخضع للظروف الإنسانية التي يمرّ بها الشاعر أو تمرّ به. وذلك لا غرابة في أن من سيقرأ الديوان الأول أو الثالث سيشعر بوجود ذات الشاعر بين الجُمل والتفاعيل. أما الرواية فهي كذلك تنصبغ بنفس اللون الخفي ولكن تحتاج إلى عين ناقدة لتتبع ظهور الشاعر بين حين وآخر والتقاط لمحات منه في فصول الرواية.
ولكون "قراطاس" "شاعرًا" و "روائيًّا"، يتحدث أيضا عن الأقرب إليه من هذين الاتجاهين، وأثر كل منهما على تطور أسلوبه الكتابي، والأكثر تأثيرًا في المستقبل: السّرد، مثل الرواية أو القصة القصيرة، أم الشعر فيقول: العمل السردي هو فعل كتابي أناني جدًا. وعندما يبدأ الشاعر بالكتابة الروائية فإنها تمنعه من كتابة أي إبداع آخر وبالذات الشعر. الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية، فهو يسمح بأن تشاركه في قلب الشاعر وفكره. ولذلك فقد عانيت كثيرًا في فترة كتابتي للرواية في العودة لكتابة الشعر. والمعاناة هنا ليست في امتناع الإبداع عند كتابة الشعر. بل في محاولة النثر المتكررة في الاستيلاء على ذلك الإبداع وتحويله لحسابها. ويمكن مشاهدة ذلك في كثير من الشعراء الذين تخلوّا تماما عن الكتابة الشعرية واتجهوا للرواية. بالنسبة لي فإن الشعر هو الأقرب المتجذر في نفسي. ولذلك لو تم تخييري بين الاثنين فأنا أختار الشعر.
ويشير "قراطاس" إلى تطور روح القصيدة العُمانية، مرورًا بالتجديد والتحوّل في الشكل والمضمون مقارنة بالكلاسيكيّة منها، والتحدّيات التي تواجه الشعر على مستوى المحيط العربي أو العُماني في ظل بيان نَفَس السرد فيتحدث: لا أتفق مع مقولة روح الشعر (العُمانية) أو (الخليجية) أو أي مُسمى. فالشعر الحقيقي لا يرتبط بالجغرافيا أو القوميات، بل هو إبداع إنساني محض. ولكن يمكننا التساؤل عن التجربة الشعرية للشعراء العُمانيين وبالنسبة لي أرى أن التجربة الشعرية في سلطنة عُمان ظلت لسنوات في مستوى واحد، واعتقد بأنها في أغلبها ما زالت عند نفس المستوى. ولسببين، أولًا حالة الواقع المعاش وما ويتجسد ذلك في جوانب اقتصاديّة واجتماعيّة، وثانيهما التجارب الفكريّة في الساحة الشّعرية. فهذان السببان لم يتغيرا كثيرا منذ عقود، ولذلك فظهور أسماء عُمانية ذات تأثير شعري على المستوى الدولي قليل. وطبعا لا أتحدث عن المسابقات، فهي أسوأ مكان يمكن فيه تقييم التطور الشعري لبلد معين، وإنما أتحدث عن التأثير والتطوير الحقيقي في حركة الشعر التصاعدية. وعن نفسي لا أرى أي بوادر تقدم جماعي في هذا المجال. فالشعر يزهر في المجتمعات ذات الرفاهية المتعدّدة في تشكّلها، وهو كذلك يزهر حين لا تكون هناك أدوار قاسية ومعقدة لأفكار وتابوهات في المجتمع. وحركة التقليد لقوالب الشعر خارج سلطنة عُمان بدأت تزيد بشكل كبير كنوع من الخروج عن السياق. فأنت إن هربت من مجتمعك فإنك تحاول الانتقال إلى مجتمع آخر عن طريق تقليده في كل شيء. لكنك ستظل دائمًا نسخة باهتة مهما تم عرضك.
وفي سياق الأدب العُماني ومواكبته "مستقصيًا" التحولات الثقافية والاجتماعية محليًّا، يشير الشاعر "المهري" إلى الأديب في سلطنة عُمان وكيف استطاع هو الآخر الحفاظ على الهُوية الثقافيّة والانفتاح على التجارب خارج نطاقه الجغرافي فيقول: لا يدمّر التطور الشعري والإبداعي مثل مقولة المحافظة على خصوصية الثقافة والأدب. وجميع المجتمعات في المنطقة الخليجية تنتهج نفس الفكرة العقيمة. ولذلك عالميًّا في مجال الإبداعات الإنسانية (نحن) لا نُعتبر مطلقا على الخارطة. فلا تأثير أبدا للأدب الخليجي أو حتى العربي للأسف. وظهور أسماء عربية في الكتابات الإنسانية لا تخرج من جهتين. إما كاتب عربي عاش قبل مئات السنين مثل ابن رشد أو ابن العربي أو ابن خلدون، وإما عربي خرج من مجتمعه العربي ونشأ في مجتمع غربي كجزء من هُويته مثل أمين معلوف أو جبران خليل جبران. ونحن لسنا بعيدين عن ذلك، نحن نعيش في حالة قتال للحفاظ على ما يسمى خصوصيتنا العُمانية العربية والإسلامية. وهنا يبقى الأدب في حلقة مفرغة يرفض أن يخرج أحد عن السياق. وطبعا هنا لا أعني مخالفة ما هو متعارف عليه ولكن الوقوف على ذلك والانطلاق إنسانيا إلى آفاق لا تتشبث بالماضي ولكن تنتقل من سماء لأخرى في مجال الإبداع الإنساني.
ويتحدث "قراطاس" عن الأثر والتأثير، وما مدى أهميته في مسيرة الكاتب مع الأدب، وهو المطمئن فيه والمقلق منه ويؤكد على أن التأثر والتأثير هما أمران واقعان لا يمكننا منعهما، وبالذات في الأدب. فالأدب كُتب ليخرج إلى الفضاء المجتمعي حوله ولذلك سيؤثر وسيتأثر مستقبلا بكل التجاذبات الناتجة عنه. ولا أعتقد بأن هناك متأثرًا أو مؤثرًا سيئًا، بل متلقيًا لا يمكن التنبؤ بمدى ردة فعله سواء على المستوى اللحظي أو التراكمي. ومن وجهة نظري فالعملية الإبداعية يكون تأثيرها دائما جيدًا مهما توهّمنا السوء في ذلك.
ويتطرق "قراطاس" إلى واقع البيئة وتقاليدها، مرورًا بالتاريخ والجغرافيا، وأثر ذلك على إبداع الكاتب في سلطنة عُمان ونتاجه قائلًا: تأثير التاريخ والمكان على الكاتب هو تأثير جوهري لا يمكن التخلص منه. أذكر في رحلة إلى باريس قمنا بزيارة بيت الروائي والشاعر الفرنسي فكتور هوجو، وقام الدليل بإدخالنا للغرفة التي يكتب فيها. ومن النافذة يمكن رؤية كنيسة نوتردام، ومن المعلوم أن أشهر رواياته أحدب نوتردام. ويتضح هنا مدى انعكاس المكان على مخيلة الأديب بشكل كبير. فالساكن في الصحراء أو في الأرياف الخضراء سيخرج أدبه مصبوغًا بانعكاسات المكان، كأن يكتب البدوي في الصحراء عن جمال الأفق ويكتب القابع في الريف عن خيانة الزهرة السامة. وفي سلطنتنا العزيزة تتنوع الجغرافيا بشكل كبير، ولذلك تتنوع الإنتاجات الأدبية بشكل كبير. لكن تظل روح المبدع وحالته المزاجية هي المهيمنة على سياق الكتابة. وبالنسبة لي كان لها تأثير كبير في كتاباتي وتظهر جلية في الشعر وفي النثر.
وفي شأن النقد الأدبي، وما مدى الحاجة إليه في خضم التطور التصاعدي الكبير لتفكيك حقيقة القصيدة أو السرد من خلال القراءات النقدية التي تستهدفه بشكل واقعي يقول "قراطاس": نفتقر إلى المجتمع النقدي الحقيقي الذي يؤثر في جودة الإصدارات الأدبية. لدينا نقاد وأغلبهم يحاولون ألا يدخلوا في صراع مع الأدباء، وهذا تأثير من السمت العُماني تجاه الآخر. ولذلك أذكر قبل عدة سنوات أن ناقدًا عربيًّا مُقيمًا كتب مقالا نقديا لأحد الشعراء وقامت الدنيا ولم تقعد، فكيف تجرّأ هذا الرجل على انتقاد إبداعات هذا الشاعر. لذلك نحن نعاني من طوبائية الفكر لدى أدبائنا فهم يعتقدون بأن كتاباتهم تتفق مع سياق الآداب السلوكية ولذلك فإن نقدها يعتبر نقدًا للأخلاق العامة. نحتاج إلى نقّاد يقدمون رسالة النقد الحقيقية وفكرًا جديدًا يتحمل النقد الأدبي ولا يعتبره نقدًا شخصيًّا أو مجتمعيًّا. ولا يمكن للأدب في عمومه على المستوى المحلي أو حتى العربي التطوّر أو الحضور في الأدبيّات الإنسانية دون آلة إنتاج نقدي. وهذا الأمر لا تخلو منه الدول في منطقتنا، فإذا ظهر ناقد جلس على مكتبه لينتقد كاتبًا توفي قبل سنوات طويلة ويخرج كتابًا نقديًّا لقلم لا يمكنه الرد عليه أو تطوير كتاباته المستقبلية. إذا استمرت هذه الكتب النقدية في محاولة إحياء الموتى فإنها لن تنجح. يجب أن يكون الناقد حيًّا يكتب في نتاجات حية لأدباء أحياء بعد صدور كتبهم مباشرة وليس بعد أن يموت الأديب والقلم والأدب.
ويشير "قراطاس" إلى الفرص التي قد يتيحها الأدب في سلطنة عُمان لتحقيق حضور أكبر على الساحة الأدبية العربية والعالمية في المستقبل، ومدى قدرته على التأثير في الأدب العربي والعالمي مستقبلًا فيقول: الفرص المتاحة لدخول الأدب العُماني للعالمية لا تنتهي ولن تنتهي، نحن فقط بحاجة إلى ثلاثة أشياء مهمة. أولا خروج الأديب من قوقعة مجتمعه إلى الفضاء الإنساني، والبحث في بيئته عن مرتكزات للانطلاق إنسانيا. وإخراج فكرة القدسية عن كتاباته وأنها قابلة للطعن والنّقد، وتقبّل هذا النقد بنية تطوير أدواته وفكره في القادم من الكتابات. ثانيا حضور مجتمع واع من النُّقاد العُمانيين في جميع اتجاهات الكتابة، وخروجهم عن سياق المجاملات الى سياق البحث الحقيقي عن نقاط الضعف والقوة في متن الكتاب. وتحمّله أمانة النقد ومتابعته للإنتاجات الدولية والمحلية ورسم خارطة نقدية يمكنها أن تدفع الأدب العُماني إلى المسارات العالمية. ثالثا حضور المؤسسات الرسمية المعنية بالجوانب الثقافية من خلال الدعم الحقيقي النوعي للكاتب، مع بناء التجمعات الحقيقية للأدباء والانطلاق بهم إلى المؤتمرات الدولية لتنمية وتوسيع آفاقهم الكتابية. وأن يتم وضع الأديب وتاريخه الثقافي في سياقه الصحيح الذي سيدفع بالشباب إلى محاولة الحصول على التقدير والمكانة ذاتها.
/العُمانية/ النشرة الثقافية
خميس الصلتي