مسقط في 2 سبتمبر /العُمانية / تخيّل نفسَك على متن سفينة خشبية تقاطع الأمواج الشاسعة، لا دليل لك سوى سماء الليل المرصعة بالنجوم وبوصلة بدائية. هذا هو الواقع الذي عاشه البحارة العمانيون لقرون عديدة، حيث تحوّلت الملاحة البحرية لديهم إلى فن راقٍ، يعتمد على المعرفة الفلكية العميقة والحسابات الدقيقة.
أوجد الربابنة العُمانيون، رغم تقليدية الأجهزة المستعملة في العلوم البحرية، العديد من الحلول لقياس الوقت والمسافات البحرية. كانوا يحسبون عمق البحر باستخدام الباع من خلال ما يسمى بالبلد، حيث يرمون حبلاً طويلاً مربوطاً في أسفله ثقل الرصاص لمعرفة عمق البحر، وعبر السنين تحولت هذه الممارساتُ إلى تراث بحري غني يلهم الأجيال.
اعتمد الملّاحون الأوائل، مثل: أحمد بن ماجد السعدي، وسليمان المهري على القياس النجمي، بينما اعتمد الربابنة المتأخرون في القرن التاسع عشر الميلادي على القياس الشمسي. كان القياس عند ابن ماجد والمهري في القرن السادس عشر الميلادي يتم عبر احتساب ارتفاع النجم في السماء عن خط الأفق باستخدام وحدة القياس تسمى "البنان" أي: الإصبع. وكان الربانُ يقوم بعدِّ الأصابع على حافة السفينة لمعرفة موقعهم على سطح المحيط، معتمدًا على نجم "الجاه" لتحديد المواقع والموانئ. ويكون القياس بوضع الأصبع بطولها على حافة السفينة بدلا من رفعها إلى أعلى، ثم يقوم الربان بحساب عدد الأصابع التي يرتفع بها النجم المستهدف عن سطح السفينة كلَّ ٢٤ ساعة، وبهذه الطريقة يعرفون موقعهم على سطح المحيط.
ويعدّ نجم "الجاه" من النجوم البارزة المضيئة التي ترشد إلى جهة الشمال دائما، لذلك؛ يعتمد عليه الربابنة في تحديد المواقع والموانئ، فإذا دوّن أحدهم في سجله أن ميناء مسقط، على سبيل المثال، يقع على (جاه ٥) فهذا يعني أنَّ هذا النجم يرتفع بمقدار خمس أصابع على ميناء مسقط، وعندما يقيس الربان هذا النجم بهذا الارتفاع فيعرف أنه بلغ مرفأ مسقط أو أصبح قريبًا منه.
ولتحديد الاتجاهات؛ اعتمد الربابنة القدامى على نظام دقيق يقوم على قياسات لنجوم الدوائر الفلكية لتحديد الاتجاهات الفرعية، مكونة من 14 نجمًا في المشارق و14 نجمًا في المغارب، ليصبح المجموع 28 اتجاهًا، بالإضافة إلى الاتجاهات الأساسية الأربعة، ليكون مجموعها 32 اتجاهًا. وكانوا يقيسون مسافات الطول عبر المسافة الزمنية، أي عدد الزامات، ويقصد بـ"الزام": المسافة التي تقطعها السفينة خلال ثلاث ساعات.
وتطور القياس البحري عند الربابنة العمانيين بسرعة، حيث تم الاعتماد على البوصلة البحرية أو ما يعرف بـ"الديرة" أو "الحقة" لتحديد الاتجاهات، التي كانت مقسّمة إلى 32 جزءًا، ويسمى الجزء منها بـ"الخن". وتضمنت هذه الأخنان أسماء النجوم من نجم الجاه إلى سهيل. كما استخدموا الإسطرلاب لقياس ارتفاع الشمس والنجوم ومعرفة الأبعاد والمرتفعات الأرضية، وكان الإسطرلاب يحتوي على أقراص دائرية تسمى "الصفائح" مقسمةً إلى 360 درجة، ومحفورًا عليها أطوال وعروض بعض المدن والأماكن المهمة.
كما استخدم الربابنة العمانيون بالإضافة إلى البوصلة البحرية العديد من الأدوات والأجهزة التقليدية لمعرفة مواقعهم في عرض البحار والمحيطات، والتعرف على أحوال الطقس والمناخ، ومن هذه الأدوات: الباطلي، والكمال، كما اعتمد الربابنة العمانيون وربابنة الخليج العربي بصورة عامة على حساب السنة الشمسية أو سنة النيروز المعرفة الأنواء والمواسم المناخية، ومواسم السفر في البحر والغوص، واعتمدوا في الوقت ذاته على السنة القمرية في حساب التقويم اليومي وحساب الشهور العربية خصوصا شهر رمضان والأعياد والمناسبات الدينية، رغم أن السنة القمرية ليست دقيقة مثل السنة الشمسية لحساب التقويم، فالسنة القمرية مدتها ٢٥٤يومًا، بينما تكون السنة الشمسية ٣٦٥ يومًا.
ويقوم حساب النيروز (الدر) على تقسيم أيام السنة عشريًّا إلى ٣٦ قسمًا والقسم الواحد يتكون من عشرة أيام ويعرف بالدر، ويعرف كل در بالمجموعة العشرية التي ينتمي إليها، فيقال العشر والعشرين والثلاثين وهكذا إلى المائة الثانية، وعلى أساس الدرور قسم العمانيون سنتهم إلى أربعة فصول وفق الآتي: الصفري (الربعية)، والشتاء، والصيف، والقيظ، ومقابلها الفصول الأربعة العالمية، وهي: الخريف، والشتاء، والربيع، والصيف، ويبدأ حساب النيروز عند أهل صور مثلا في الثامن من سبتمبر من كل عام، وهو أول يوم في شهر توت القبطي، بينما يبدأ حساب الدرور في ولاية البريمي وبعض الولايات العُمانية الأخرى قبل ذلك، وتحديدًا في منتصف شهر أغسطس من كل عام، وكان يعتمد على هذا التقويم في معرفة الأوقات المناسبة للزراعة وجني الثمار ومعرفة المتغيرات المناخية من رياح وأمطار وأعاصير. ويتقارب حساب الدرور الذي يعتمد عليه أهل الساحل في الخليج العربي مع حساب السهيل الذي يعتمد عليه أهل البادية، غير أن حساب السهيل يبدأ بظهور نجم سهيل، بينما يكون الاختلاف بين الأنواء (النجوم) والدرور اختلافًا في الشكل فقط، أما المضمون فهو نفسه تقريبا، فقد استعمل أهل البحر الأرقام بدلا من الأسماء، ولهذا فقد قسموا السنة إلى ٣٦ جزءًا، وأطلقوا على كل جزء اسم در والدر عند أهل البحر في منطقة الخليج هو الرقم عشرة، بينما استعمل أهل البادية والمدن أسماء النجوم، وأطلقوا عليها مدة محددة تعرف بالنوء، والنوء يعني باللغة العربية طلوع النجم أو بروزه في السماء.
تتوزع الدرور على مدار السنة الشمسية، أي ٣٦٥ يوما كاملة، ويتم حساب كل در بعشرة أيام يتبعه الدخول بالدر الذي يليه. والدرور، هي: العشر، والعشرون، والثلاثون، والأربعون، والخمسون، والستون، والسبعون، والثمانون، والتسعون، والمائة. وكلُّ در من هذه الدرور يستمر إلى عشرة أيام، أي: إذا كان الحاسب في العشرين تكون الحسبة بالأيام وفق الآتي: أول العشرين، ثاني العشرين، ثالث العشرين... إلى أن يصل إلى عاشر العشرين، ثم ينتقل إلى الدر الذي يليه مبتدئًا بأول الثلاثين، ثم ثاني
الثلاثين، وهكذا.
وإلى جانب حساب الدرور هناك تقاويم أخرى في بعض المناطق، منها: التقويم الشبامي الذي يؤرخ بحسبة ربابنة محافظة ظفار، وهو يعتمد على المنازل القمرية الغاربة وليست الطالعة، وبين الطالعة والغاربة ستة أشهر في الحساب، ويعد تقويم الشبامي من التقاويم التي تعتمد على السنة الشمسية أيضًا، أي على حساب ٣٦٥ يوما في السنة، وعليه؛ قسمت السنة إلى أربعة فصول، وهي: الشتاء، والقيظ (الصيف)، والخريف، والصرب (الربيع)، كما قسم الفصل إلى سبعة نجوم، وفي كل نجم ١٣ يومًا. ووفقا لهذا التقسيم والرصد تعامل أهل ظفار مع المناخ العام وانتظمت حركتهم في الزراعة والرعي وجني المحاصيل والأسفار.
/العُمانية /النشرة الثقافية /طلال المعمري