بغداد في 18 ديسمبر /العُمانية/ يقول الكاتب العراقي عمر سعيد إنَّ كتاباته تحمل أبعادًا فلسفية لأنَّ هذه هي "طريقته بالتفكير"، مضيفًا أنَّ الفلسفة هي "استراتيجية ومنظور خاص للواقع"، وأننا لا نحتاج إلى الكثير من السرد لعرض فكرة فلسفية، فــ"قليلٌ من القص يكفي أحيانًا" وفقًا لتعبيره.
ويؤكد سعيد في حوار مع وكالة الأنباء العُمانية، أنَّ الفلسفة تنطوي على تكثيف عالٍ للأفكار واختزال عميق للتجربة الإنسانية، وهي "منظور يوفر عليك الكثير من الإسهاب في السرد لتناول المعاني الكبرى في الحياة كالموت والحب والعدم"، مشيرًا إلى أنّه لا فرق بين القصة القصيرة والقصة الطويلة والرواية إذا كان الكاتب يريد أن يعطي بعدًا فلسفيًّا لأفكاره.
ويتابع صاحب المجموعة القصصية "المنيع" (2023): "إذا كان لديك ما تقوله حقًا، فكل الأجناس الأدبية ممكنة للتعبير عن أفكارك"، فإذا كانت الرواية ذات مساحة أوسع فإنّ "قيود رسم الشخصية قد تحد من بعض الأفكار"، بينما "يكون ضخ الأفكار في القصة القصيرة خاطفًا، لكنه لا يترك تأثيرًا عميقًا مثلما تفعل الرواية، لأنّ القارئ لا يحصل في القصة على الوقت والوصف الكافيين للتفاعل مع الشخصية أو التعاطف معها، أمّا الرواية إذا تم صناعة الشخصية فيها بشكل جيد، فمن الممكن تمرير الأفكار من خلالها بسهولة أكثر من القصة".
وفي سياق حديثه عن اتجاهه في السرد نحو تقنيات تكسير الأشياء، وتفكيك الموضوعات، ومساءلة الحقائق الراسخة في أذهاننا لتجاوزها، يقول سعيد الذي يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية: "لم يعد السرد المتعارف عليه يكفي للاستحواذ على القارئ المعاصر، فهذا القارئ رغم قلة اطلاعه إلا أنّ مشاهداته أكثر وإيقاعه مختلف تماما، ينحو للملل بسرعة".
لذلك، يرى سعيد أنه لا بد من "تهشيم المفردات المتداولة من طرق سردية تقليدية، واستخدام كل ما أنتجته البشرية من أساليب تعبيرية لمواكبة مزاج القارئ المعاصر"، ويصف هذه الحال بقوله: "لا يوجد حقيقة راسخة غير قابلة للتفكيك والبحث والتحليل.. لم تعد المعاني متاحة.. ينبغي حمل المبضع والملقط والعمل بحرص للظفر بالمعنى.. السرد بكل تقنياته هو مبضع وملقط لتشريح جسد الأفكار الراسخة، ولا بأس بأن تنزف الحقيقة الثابتة قليلًا ما دامت العملية الجراحية ستُنتج معنى آخر أكثر صحّية ومواءمة لتفكير الإنسان المعاصر".
وحول الرمز والإيحاء والإسقاط والنهايات المفتوحة في كتابته السردية، يوضح سعيد الذي يعمل في مجال الإعلام أنّ هذه الوسائل والتقنيات إذا استُخدمت بشكل صحيح فسوف تفتح مداخل متعددة للتأويل.. ويضيف: "بودّي لو تتمكن كتاباتي مشاكَسة القارئ لجعله يؤول، لا يهم الصحيح والخطأ هنا، المهم هو العمل على رؤية الواقع بشكل مغاير.. أتمنى أن تزعج كتابتي القارئ للحد الذي يجعله يتساءل، فطرح السؤال أهم من الاهتداء للجواب.. لو استطعنا جعل القارئ يتساءل ثم يصل إلى مرحة السؤال لأصبح بالإمكان تغييره، وبالتالي تغيير الواقع والعالم من حوله.. النهايات المفتوحة هي لتوريط القارئ بالنص، وللاستحواذ على مخيلته حتى بعد إغلاق الكتاب".
وفي ما إذا كان يكتب كمن "يصور بالكلمات"، يقول سعيد: "هذه العبارة تبدو لطيفة.. الكلمات أدوات نستخدمها للتوصيل.. الأفكار في رأسي دائمًا مصورة وعلى شكل مشاهد، والكلمات أدواتي لنقل هذه الصور. لكن كيف تتخيل الواقع لتستخدم الكلمات بالتصوير؟ هنا تكمن مهارة الكاتب؛ كم هي عميقة مخيلتُه؟ كيف يرى الأشياء؟ فإذا كان يشاهد ما يحدث داخل عقله بشكل واضح، فستتحول اللغة ساعتها وببساطة إلى عجينة طيعة لتجسيد الحياة المُتخيلة".
وبوصفه عربيًّا يقيم في دولة أجنبية، ينظر سعيد إلى الهوية بوصفها "مأزقًا تتداخل فيه تواريخ شخصية، وعلامات، وموروثات، وأسماء، وعناوين، وحدود". ويضيف: "الإنسان يجمع خلال حياته أكبر قدر من المعلومات (الداتا)، يكتبها على قصاصات ورقية ويصنع منها بيتًا، يسكن داخله ويعتقد أنّ هذا البيت هو كل الحياة، وأنّ المعلومات حواليه هي الحقائق الثابتة.. لكن هبّة ريح ثقافة أخرى تحمل قصاصات ورقية تتضمن معلومات مغايرة قد تجعل بيت الورق ينهار، فيعيد الإنسان تركيبه مستخدمًا قصاصات الورق الجديدة، ليصبح البيت أكبر، وإمكانية تغيير التصاميم -أي الحقائق- مُتاحة أكثر".
وحول حال المقروئية عربيًّا، ومقارنتها بما هو حاصل في الغرب، يقول سعيد: "لدينا تجارب سردية عربية مهمة، المشكلة ليست بالسارد إن صح القول، المشكلة بالقارئ العربي.. إنه لا يقرأ.. الإنسان الغربي يقرأ باستمرار، وأنا أتكلم عن الولايات المتحدة التي عشت فيها معظم حياتي، القراءة هنا جزء من المناهج الدراسية، منذ الصفوف الابتدائية يُطلب من الطالب قراءة عدد معين من الكتب كل سنة.. أما الإنسان العربي -للأسف- فلم يعد يقرأ، ليس لديه أبطال كنجيب محفوظ وسارتر ودوستويفسكي، ليتابع آخر نتاجهم".
وحول الدلالات التي تكمن وراء اختياره "المنيع" عنوانًا لمجموعته القصصية، يقول سعيد: "(المنيع) هو عنوان أحد نصوص الكتاب، لكن من هو المنيع؟ الإنسان البسيط أم الدكتاتور؟ من هو المحصَّن في الحياة من الظلم أو العوز أو المشاعر الداكنة؟ المنيع تجربة إنسانية، دلالاتها تساؤلاتنا التي لا تنتهي، مواجهاتنا الأزلية مع القدر وتواريخنا الشخصية.. كيف يصبح الإنسان منيعًا؟ هل هو الوعي؟ أم ربما الجنون؟ عليك أن تقرأ الكتاب لتكتشف بنفسك".
/العُمانية/النشرة الثقافية/عُمر الخروصي