مسقط في 22 أغسطس /العمانية/ تتشكل تجربة الفنانة التشكيلية العمانية صفاء الفهدية في حضور نوعي يقترب من واقع الإنسان وتفاعله مع محيطه الذي يشكل هو الآخر هويته وماهية حقيقته، كما أنها تعمل على إبراز جماليات وتضاد ذلك الإنسان ضمن أطر فنية مغايرة.
وترى الفهدية أن الرسالة المقدمة للجمهور من خلال الأعمال الفنية التي تعرضها هي المحور المميز حسب تعبيرها وتقول إن أعمالها الفنية تهدف للحديث مع الجمهور المتلقي والتفاعل معه من أجل التعايش والدخول بتأثر وتعمق مع ذلك العمل، والفن يهتم بالتلاحم مع الإنسان والإنسانية ويتكامل مع المجالات والعلوم الأخرى، لما له من دور نفسي وعلاجي وعلمي وإبداعي، ويعد كمحور أساسي للثقافة، وأفضل وسيلة للحديث مع ما حولنا هو الفن.
للفنانة الفهدية توجه حيث الفن المفاهيمي وتقر توغل ذات ذلك الفن في مسيرتها الفنية والغرض المباشر من التوجه نحوه وتوضحه بقولها: "تجاربي الشخصية في الفن المفاهيمي دائمًا تختلف عن تجارب فنان آخر في نفس المجال، ويبدو أن الفن المفاهيمي على الرغم من ظهوره في فترة متقدمة من السبعينيات، إلا أن الفنان نادرًا ما يلجأ للتعبير عن فنه بالمفهوم، لأن الفن المفاهيمي يحتاج فكرًا وقوة في إبراز العمل الفني وفي اختيار العناصر الصحيحة والمؤثرة للتعبير عنها، وكذلك الطريقة المناسبة للعمل عليها، ويجب أن لا ننسى أنّ الخامة المستخدمة أو الوسيط المستخدم في العمل الفني له دورٌ كبير جدًّا في إلقاء الرسالة بالشكل المطلوب، فعلى سبيل المثال عندما يعرض الفنان عملًا تركيبيًّا أو عملًا في التجهيز في الفراغ لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار الزمان والمكان، لأنّ الفترة الزمنية - وبكل بساطةٍ - تعطي انطباعًا ورسوخًا قويًّا في التآلف مع العمل الفني وتذكره، فإن كانت قضية العمل مثلًا للدفاع عن حقوق المرأة فعرض العمل في يوم المرأة العماني يمكن أن يكون أعمق أثرًا عن الأيام الأخرى، وأما عن المكان فاختيار المكان له أثر نفسيّ كبير، فإن كان الموضوع يدل على الجفاء والفقر والألم فمن الممكن أن تكون الصحراء أو الأرض الجرداء هي المكان الأكثر ملائمة لإقامة العمل الفني".
وحول أهم الأعمال التي شكّلت علاقة الفهدية بهذا الفن، تتذكرها هنا وتقول: "أعمالي الفنية دائمًا أدقّ في اختيار الخامة المثلى لعرض الفكرة أو العمل، فعمل "طفل النذر" تغلب عليه البيئة الرملية، وعمل "نافذة" كان من نوافذ حديدية أخذتها من أحد المنازل من قرية عمانية قديمة، وهكذا الحال مع أعمالي الأخرى، وما يجعلني سعيدةً حقًّا أنّ جميع المشاهدين من فنانين ونقاد ومتذوقين للفن كانت تستوقفهم جمالية المادة المستخدمة في العمل وروحانية العمل أثناء العرض، وبهذا أجد نفسي وفقت بالحديث معهم دون خوض أي حوار أو نقاش شفهي".
وتضيف في السياق ذاته: "العمل التركيبي "طفل النذر" هو الأقرب بالنسبة لي، ويعد من الأعمال الفنية المفاهيمية المعاصرة، والفن المفاهيمي دائمًا ما يهتم بالفكرة والرسالة التي يقدمها الفنان، في الواقع هذا ما لمسته من الفن في بداية ممارستي له، فهو يحمل رسائل فنيةً وعلى الفنان اختيار الطريقة الصحيحة في إنتاج وتقديم العمل الفني للجمهور".
وتتحدث عن رحلة فنية أخرى لا تقل أهمية عما سبقه: "أما عن رحلتي مع العمل الفني "مرحلة" في عام ٢٠١٧، بدأت ولفترةٍ من الزمن بالتأمل، كيف أنّ الشيء وضده هو تكاملٌ في عينه، وما يوشك الإنسان أن يخرج من مرحلة إلا وأتبعتها مرحلة أخرى لا تقل أهمية عنها، وتختلط هذه المراحل بين الفشل والنجاح والنهوض بعد السقوط، هنا يأتي دور الفنان في كيفية التعبير عن هذا المفهوم واستكشاف مدى أهمية توصيل الفكرة في المجتمع بالطريقة المثلى، ثم أنتجت أعمالي الفنية الأخرى "نافذة" و "تفكر"، وكانت عبارةً عن إسقاطاتٍ لأفكاري المكنونة في هيئة رمزية مفاهيمية".
وتضيف: "لو تمعّنا في الحديث عن العمل الفني "مرحلة" فكانت فكرته هي تأمل الإيماءات التي تعبّر عن مشاعر الأشخاص، فبدأتُ بتصوير امرأة لهذه المشاهد، وتزامن ذلك مع التقاط الصور المتتالية في كل مشهد، وقمتُ بعرض الصور واحدةً تلو الأخرى أمامي، وبدأت بالتأمل ماذا لو قمنا بحذف إحدى هذه الصور؟ إذًا سيكون هناك خللٌ أو شيء مفقود في تلك المرحلة، فعزمت طباعة تلك الصور الملتقطة في لوحات من زجاج، ثم قمت بصفها بطريقة يستطع المشاهد رؤية تلك الالتقاطات بشكل متكامل. تحدّث الجمهور أثناء العرض أنّ هناك مشكلةً في حذف صورة من المشهد، أبدى الجميعُ رأيه بإحساسهم أنّ المعنى غير مكتمل، ولكل لحظة إيجابية أو سلبية هي مهمة جدًا لتكامل المنظومة في الحياة".
العارف بأي عمل لفنانة عمانية أيًّا كان توجهها الفني التشكيلي، يرى ذلك التماهي حيث تفاصيل الأنثى وواقعها المرتبط بأحداثها المتقاطعة اليومية، التي قد لا يمكن الانسلاخ منها، وهذا ما تشير إليه الفهدية حيث مسيرتها الفنية ومدى تجسّدها، وتؤكد: "الأنثى بكينونتها، المرأة والقضايا المتعلقة بها بالطبع ستلامس صفاء المرأة قبل أن تكون فنانة، ظهور المرأة في الأعمال الفنية بهيئة عادية أو مغطاة الوجه والملامح كلها لها أهداف للتأمل والتمعن في المرأة".
وتشير: "بالرجوع مرة أخرى في العمل الفني "مرحلة" كانت من قامت بتجسيد المشاهد هي امرأة ارتدت عباءةً سوداء غطّت جميع ملامحها، هنا الغطاء هذا دل على أنّ المرأة لا يهمّ ما تكون ملامحها، بل إنها باستطاعتها الحديث مع الجميع والمرور بكل تلك المشاعر والمراحل مهما كانت تمتلك من صفات في جميع الثقافات والحضارات، فهي تفرح وتسقط وقادرة على النهوض من جديد، وقمت بالعديد من الأعمال في مجال "الفيديو آرت" مثل العمل الفني "لغة امرأة" الذي فاز بملتقى الفيديو آرت الدولي في الدمام بالمركز الثالث لهذا العالم، وهي مواجهة المرأة للمجتمع من الأوامر والالتزامات التي يفرض عليها، فتحكم عليها نظام حياتي معين، وتعبّر في الفيديو بأنّها تحاول جاهدةً زخرفة ثوبها الأسود احتجاجًا على ذلك، وأمّا عن العمل الفني "البنجري المشوك" فهنا تظهر محاولاتٌ للمرأة لحماية نفسها، وتظهر كما لو أنها تقاوم شيئًا في محيطها".
وللفنانة صفاء تجارب حول تسويق المنتج الثقافي الفني، وهي بلا شك عمليةٌ علمية حول الهوية البصرية كمدخل لمشاريع ريادة الأعمال، مرورًا بالفرص والتحديات المعاصرة في مسيرة الفن، هنا تطلعنا حيث هذه التجارب، وتشير: "هي كانت أول تجاربي في تسويق المنتج الثقافي، حيث عزمت أثناء تحضيري لرسالة الماجستير أن أهتم بالفنون الشعبية العمانية والموروثات الفنية العريقة، فقد وجدت أنّ هناك الكثير من الفنون المادية وغير المادية التي لا زالت لم توثّق، وقد ندر مع مرور الأيام دون السماع عنها إطلاقًا، فقدمت في مؤتمر رسالة بحثية تحمل عنوان "الهوية البصرية كمدخل لمشاريع ريادة الأعمال"، وكان الهدف الأساسيّ منها رصد رموز الهوية العمانية، من خلال زيارتي للعديد من الأماكن التراثية والتقاط الصور واستخراج الرمزيات الفنية والجمالية منها كالنقوش والزخارف والأقواس المنحوتة في القلاع والحصون والمساجد القديمة والبيوت العتيقة، ومزاوجة هذه العناصر بالألوان المختلفة عبر برامج التصميم؛ لإنتاج بطاقاتٍ تعريفية سياحية ومنشورات مختلفة، والتحدي الأكبر الذي واجهته هو الحرص على الحفاظ على هيئة ذلك الرمز وألوانه الحقيقية دون التغيير فيها أثناء استخدامها في البطاقة المصممة، وحصلت على نتائج جميلة في إنتاج تلك المنشورات، ولا زلت مستمرةً في هذا المشروع، ولديّ أفكارٌ مستقبلية في البحث عن مفردات نادرة في الشكل واللون، وتقديمها بطريقة معاصرة للجمهور، كذلك هناك خططٌ قريبة لعرض هذه المنتجات على مستوى أكبر من خلال المواقع الإلكترونية".
وثمة تجارب أخرى بصرية لدى الفنانة الفهدية كونها متخصصةً في مجال الفنّ المعاصر في الفنون البصرية، غير تلك التجارب التي قد نراها في لوحة تعلق على جدار معرض تشكيلي محدد، ونذكر هنا العمل الفني أسطورة "طفل النذر"، وهنا تحدثنا عن هذه الأسطورة وتوظيف التاريخ في العمل وتوضح: "أسطورة "طفل النذر" أحد الأساطير العمانية التي تتصل بالمجتمع اتصالًا معنويًّا وفكريًّا بشكل قوي، ومن المدهش أنّ هناك أساطير عالمية شعبية مشابهة لها، وتتمثل هذه التجربة في تجسيد الأسطورة بشكل واقعي ممزوجٍ بروحانية الشعوب القديمة في عمل فني معاصر يلامس الواقع الأثري للعمانيين وغير العمانيين بشكل مباشر، ومثل الفنانين الآخرين في مختلف الحضارات القديمة قد جسدوا موروثاتهم بأساليب متعددة، وبدوري كباحثة وفنانة في هذا المجال تبنّيت هذه الأسطورة لإيصالها بأسلوب فني فريد في ساحة الفن العمانية والعالمية، كما أنّ الفن يعتبر الوسيلة المثلى لإيصال الرسالة على أكمل وجه، حيث تتأخر أفضل الأساليب للتعبير والتوثيق للأفكار والأساطير المتوارثة شكلًا ومضمونًا عبر الزمن".
وتضيف: "تجربتي في إنتاج عمل فني تركيبي - التجهيز في الفراغ، الفيديو آرت - تؤكد على أهمية إيجاد مدخل ترتبط فيه تجربة الفنان بهويته وبلورة الرموز الشعبية في عمل فني معاصر، حيث تُنشئ الفنانة مساحةً فراغية لسرد الفكرة المستلهمة من الأسطورة وتوزيع عناصرها - العنصر السائد هو الجنين - وتنظيمه وعرضه، فتوجد نوعًا من التفاعل بين جميع العناصر النحتية والتكنولوجية المتمثلة في الفيديو والتهويدة في الفراغ، وتنسجم مع الجمهور أثناء عرضها ليكون عنصرًا فعّالًا معها عندما يعود بذاكرته لماضيه وتراثه، ويعيش معه في الواقع بشكل ملموس، وهذا يدل على حرص الفنانة للتعبير عن مضمون عمالها بالشكل الهادف، والجاذب، الذي يرقى بجمالية التراث وعبق الماضي".
وتؤكد: "لقد بدأت التجربة في تدوين العديد من القصص والأساطير العمانية الشعبية من خلال الاستماع للعديد من أفراد المجتمع، وعند سماعي عن "طفل النذر" كان له وقعٌ عميق على مسامعي وخيالي، حيث ارتأيت أنّ التعبير عنه من خلال أعمال فنية معاصرة تعتبر هي الأولى من نوعها في سلطنة عمان، استمعت للعديد من رواة هذه القصة ولاحظت تكرار بعض المصطلحات كرمزيات القصة وأحداثها المتوالية، وانطلقت بمخيلتي في رسم الاسكتشات الأولى، وهي عبارة عن فتاة صغيرة يترقبها صقر فوق /سمرة/ تحمل بجنين صقر في أحشائها، وتتوزع أجنة الإنس من حولها بشكل عشوائي، وتظهر على ملامح الفتاة في هيئة هلعٍ كما تظهر، إلا أنني أعدت التعبير عن هذا المشهد مجددًا بصيغ أخرى محاولةً الوصول إلى المعنى الكامن لتلك الأسطورة".
القارئ لمسيرة الفنانة الفنية والمتتبع لها يجد ذلك الوجود المباشر لها في المجموعتين البحثيتين، (OVARG) للفنون البصرية العمانية، و(CHRVAG) البحث النقدي والتأريخي للفنون البصرية، وهنا توضح ماذا يعني ذلك التواجد، وما المحفزات التي دعتها للانضمام إلى هذه المجموعات المعنية بالفن البصري: "إنّ هاتين المجموعتين لهما دور كبير في توثيق الفن وعمل دراسات بحثية للفن في سلطنة عمان وخارجها، لذلك وجودي في هاتين المجموعتين يتيح لي الفرصة في عمل دراسات بحثية فردية أو جماعية تفيد الفنان والمجتمع مستقبلًا".
تقترب الفهدية من المدراس الفنية التي دائمًا ما تكون أكثر توافقًا مع طرحها الذهني الفني، ومن ثم صقله ليكون أكثر واقعيًّا لدى الجمهور وأقرب إليه من تلك المدارس غير "المفاهيمية"، أما الأسباب التي تجعل من الفنان أن يتجه إلى مدرسة فنية دون غيرها تقول فيه: "أظن أنني انتهجت اتجاهين في ممارستي للأعمال الفنية، أغلبها تتجه للواقعية في التصوير والتعبير عن الموضوع الفني، وهي عبارة عن نقل الآداب والموروثات غير المادية على هيئة صورة بصرية أو رمزية في اللوحة، وأما عن الاتجاه الآخر وهو السريالية، فكثيرا ما تجوب أعمالي الفني الخيال والتعبير عن النفس والعقل الباطن وما يحويه من مشاعر وأحاسيس مختلفة".
في نهاية هذا التطواف لا نود الرجوع إلى ما خلفته "جائحة كورونا"، إلا أننا نتعرف على الكيفية التي استفادت منها الفنانة صفاء من هذه التجربة وتقول: "جائحة كورونا وعلى الرغم من أنها من أصعب الفترات التي مرت على الإنسانية إلا أنها قد يكون لها جانب إيجابي على الفنان، من جهة أخرى فقد تتيح للفنان الفرصة للجلوس مع نفسه والتأمل والتفكر في نفسه ومع ما يحيط به من مواقف وأحداث، وقد تكون الجائحة هي مصدرٌ لتعبير الفنان عن مشكلة عالمية كبيرة".
/العُمانية/
/النشرة الثقافية/
خميس الصلتي